09 مارس 2024

تأملات في حديث من وصى أهله بإحراق نفسه

 

  بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:


تأملات في حديث من وصى أهله بإحراق نفسه

قال النبي: "كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرا ‌قط ‌إلا ‌التوحيد، فلما احتضر قال لأهله: انظروا إذا أنا مت أن يحرقوه حتى يدعوه حمما، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم راح فلما مات فعلوا ذلك به، فإذا هو في قبضة الله، فقال الله عز وجل: يا ابن آدم، ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي رب من مخافتك. قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيرا ‌قط ‌إلا ‌التوحيد" رواه أحمد وصححه الألباني وشعيب وأحمد شاكر

ومعروف أنه قال كما في الصحيحين: فَوَاللَّهِ ‌لَئِنْ ‌قَدَرَ ‌اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ"

اختلف أهل العلم بالسنن في هذا الحديث على مسالك كثيرة

ومنهم من حمله على أنه كان مغلوبا على عقله من شدة خوفه وفزعه من عذاب الله عند الاحتضار فنطق به غير عاقلا

قال الإمام ابن جرير الطبري: "وقال آخرون: إنما غفر له، وإن كان كفرًا ممن قصد قوله وهو يعقل ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول. وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذى كان لحقه لخوفه من عذاب الله تعالى وهذا نظير الخبر الذى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الذى يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال له: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) فيقول للفرح الذى يدخله: (يا رب أنت عبدى وأنا ربك مرتين) قالوا فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما لم يكن منه كفرًا لأنه قاله وقد استخفه الفرح مريدًا به أن يقول: أنت ربى وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك. ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5]"

ومنهم من قرر بناء عليه أن من جهل صفة من صفات الله من المؤمنين لا يكفر

قال الإمام ابن قتيبة: "وهذا رجل مؤمن بالله مقر به إلا أنه جهل صفة من صفاته وظن أنه إذا أحرق وذري في الريح  أنه يفوت الله عز وجل، فغفر الله له بمعرفته إياه ومخافته من عذابه، وجهله  بهذه  الصفة من صفاته"

وهذا في الناس كثير فحتى بعض ممن يشارك في السجال السلفي الأشعري قد لا يعلم بعض صفات الله التي مخرجها دقيق أو يغلط في ذلك فلا يكون كافرا فكيف بعامة الناس

لكن ينبغي التبيه أن ابن قتيبة نفسه قال في رؤوس أهل الكلام: "لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه"

فرؤوس الجهمية لا ينطبق عليهم هذا الحديث لا عند ابن قتيبة ولا عند غيره من السلف

والقياس الذي أجراه بعض العلماء بين الرجل في الحديث وبين أئمة الجهمية ظاهر الخطأ لعدة فوارق مهمة:

1. أن الرجل كان موحدا وهؤلاء غالبهم مشركون

2. أن الرجل في الحديث كان مقرا بالبعث ومقرا بأصل القدرة  وهؤلاء ينكرون كثيرا من الصفات من أصلها

3. أنه لم ينكر شيئا أصلا إنما جهل وشك

4. أنه كما جاء بعض روايات عند أحمد (قال شعيب إسناده حسن) "كَانَ لَا يَدِينُ اللهَ دِينًا" وهذا يبين أنه كان حنيفا موحدا من أهل الفترات يتبع ما وصله من قليل آثار الرسالة غير متمكنا من العلم

فأين هذا ممن عنده وحي القرآن والسنة ومن في مروياته كتب السلف في الرد على الجهمية ينقل منها ومن وُوجه ونُوظر ومع ذلك ينكر عامة صفات الله اتباعا لليونان ويحارب التوحيد وأهله ويسعى في الإضرار بهم؟ لا يستويان مثلا!

وهذا الحديث إن قيس منه فعلى المقلد غير متمكن من العلم من بلهاء الناس الذي يعيش في بلاد منقطعة لا يعرف العربية فقيل له فصدقهم فهذا في حكمه الدنيوي والأخروي كلام وأقوال

أما القياس بين أئمة الجهمية المنكرين للعلو وبين هذا الرجل فبعيد بعيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق