بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد ظهر في هذه الأزمنة المتأخرة دعوة ضالة ظاهرها الرحمة وإحياء السنن واتباعها وباطنها العذاب ومخالفة إجماعات السلف واستحداث أقوال جديدة في الفقه وتتبع الشذوذ من المسائل وتعالم وتحذلق على الصحابة وأئمة الأمصار وتجاهل إجماعهم واختلافهم
وقد أسس هذه الدعوة بعض المتعالمين فنشروا بين الناس هذه المسالك وورطوهم في تلك المهالك فأردت أن أجمع كلام السلف في بيان خطرها وشرها وجعلتها على الأبواب
والله نسأل أن يقبل ذلك منا إنه قريب مجيب
باب ذكر أن الإنسان لا يكون عالما حتى يعرف أقوال الصحابة وفقهاء الأمصار وإجماعهم واحتلافهم
1. قال قتادة: " مَنْ لَمْ يَعْرَفِ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ بِأَنْفِهِ"
2. قال سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَةَ: «مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الِاخْتِلَافَ فَلَا تَعُدُّوهُ عَالِمًا»
3. قال هِشَام بْن عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِي: «مَنْ لَمْ يُعْرَفِ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ فَلَيْسَ بِقَارِئٍ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفِ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ»
4. قال عطاء الخرساني: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ، حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ رَدَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ أَوْثَقُ مِنَ الَّذِي فِي يَدِهِ»
5. قال أَيُّوب السِّخْتِيَانِي يَقُولُ: «أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمْسَكُ النَّاسِ عَنِ الْفُتْيَا أَعْلَمُهُمْ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ»
6. قال سفيان ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: «أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ»
7. سُئِلَ مَالِكٌ، قِيلَ لَهُ: لِمَنْ تَجُوزُ الْفَتْوَى؟ قَالَ: «لَا تَجُوزُ الْفَتْوَى إِلَّا لِمَنْ عَلِمَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ» قِيلَ لَهُ: اخْتِلَافُ أَهْلِ الرَّأْيِ؟ قَالَ: «لَا، اخْتِلَافُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ يُفْتِي"
8. قال يحيي بن سلام: " لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَعْرِفُ الِاخْتِلَافَ أَنْ يُفْتِيَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ الْأَقَاوِيلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ"
9. قال قَبِيصَة بْنَ عُقْبَةَ "لَا يُفْلِحُ مَنْ لَا يَعْرِفُ اخْتِلَافَ النَّاسِ"
وكل هذه الآثار رواها ابن عبد البر في الجامع في (بَابُ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى فَقِيهًا أَوْ عَالِمًا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ)
10. قال الإمام أحمد: " إنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ يَتَقَلَّدُ أَمْرًا عَظِيمًا يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ وَإِلَّا فَلَا يُفْتِي " الآداب الشرعية 2/134
قال ابن عبد البر: "وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقُضَاةِ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ ، وَبِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ ، وَعَالِمًا بِالسُّنَنِ وَالآثَارِ ، وَعَالِمًا بِاخْتِلافِ الْعُلَمَاءِ ، حَسَنَ النَّظَرِ ، صَحِيحَ الأَوَدِ ، وَرِعًا ، مُشَاوِرًا فِيمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ" جامع بيان العلم
وعلى هذا أيضا الأصوليون المتأخرون
قال أبو المظفر السمعاني: " وأما الشرط الرابع لصحة الاجتهاد فهو معرفة الإجماع والاختلاف وما ينعقد به الإجماع وما لا ينعقد به الإجماع وما يعتد به في الاجماع ومن لا يعتد به في الإجماع ليتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف"هـ قواطع الأدلة 2/306
فإذا تبين هذا فمن كان من أجهل الناس باختلاف الفقهاء وإجماعهم حدود مسائلهم ولا يعتبر بأقوالهم وإجماعهم واختلافهم أصلا بل يحدث بالاستمرار أقوالا منكرة لا تعرف عن أحد من فقهاء الأمصار فليس هو بعالم ولا فقيه بل هو جاهل جهلا مركبا ومخالف سبيل المؤمنين وبالله التوفيق
فائدة: هذه الآثار من بيان بين لبطلان ما افتروه من قبيح إفكهم في أن كل محدث فقيه
وهذه المقالة لا تعرف عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفى ولا عن إمام يرضى إنما هي من إحداث هؤلاء القوم لنشر باطلهم وترويجه
نعم لابد للققيه أن يكون عالما بالآثار لكنه شرط واحد فقط وهناك شروط أخرى كمعرفة اللغة والناسخ والمنسوخ والإجماع والاختلاف والقياس وأن يعرف آيات وأحاديث الأحكام وكلام أهل التأويل من السلف فيها وغير ذلك مما هو مذكور في موضعه
أما مجرد أن يكون عالما بالحديث فهذا لا يستلزم أن يكون فقيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ مِنَّا حديثًا فحفِظَهُ حتى يُبَلِّغَه غيرَهُ ، فرُبَّ حامِلِ فقْهٍ إلى من هو أفقَهُ منه ، وربَّ حامِلِ فقهٍ ليس بفقيهٍ" رواه الترمذي وحسنه
وقد سئل عبد الله بن المبارك:" مَتَى يَسَعُ الرَّجُلَ أَنْ يُفْتِيَ؟" فقَالَ: «إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَثَرِ بَصِيرًا بِالرَّأْيِ"
فلا يكفي مجرد كون الرجل محدثا - وهذا على التسليم أن هذا الشخص يعد محدثا أصلا - حتى يضيف إلى ذلك أمورا أخرى ذكرنا بعضها
والله أعلم
باب في ذم تتبع شذوذ المسائل وأن من يفعل ذلك فليس بإمام
قال الإمام ابن أبي حاتم في كتابه "أصول السنة واعتقاد الدين" وقد نقل إجماع علماء الأمصار على ما فيه: " وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.."
قال معمر بن راشد: " لو أن رجلا ، أخذ بقول أهل المدينة في السماع وإتيان النساء في أدبارهن ، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف ، وبقول أهل الكوفة في السكر ، كان شر عباد الله" رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 174
قال الأوزاعي: " يُتْرَكُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُتْعَةُ وَالصَّرْفُ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ السَّمَاعُ وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ فِى أَدْبَارِهِنَّ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ الْجَبْرُ وَالطَّاعَةُ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ النَّبِيذُ" رواه البيهقي في الكبرى 21467
قال إسماعيل بن إسحاق: " دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إِلَىَّ كِتَابًا نَظَرْتُ فِيهِ وَكَانَ قَدْ جُمِعَ لَهُ الرُّخَصُ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ زِنْدِيقٌ فَقَالَ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَحَادِيثُ قُلْتُ الأَحَادِيثُ عَلَى مَا رُوِيَتْ وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ فَأُحْرِقَ ذَلِكَ الْكِتَابُ" رواه البيهقي في الكبرى 21449
قال الأوزاعي: " : مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ" رواه البيهقي في الكبرى 21466
قال عبد الرحمن بن مهدي: " لا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ أَخَذَ بِالشَّاذِّ مِنَ الْعِلْمِ" الجامع 809
قال النضر بن محمد: " أفضل العلم المشهور" جامع أخلاق الراوي 1293
قال إبراهيم بن أبي عبلة :" من حمل شاذ العلماء حمل شراً كثيراً" شرح العلل 1/419
قال معاوية بن قرة : "إياك والشاذ من العلم" شرح العلل 1/419
قال إبراهيم بن أدهم: "إذا حملت شاذّ العلماء حملت شرًّا كثيرًا" جامع أخلاق الراوي 1484
قال الإمام مالك: " شرّ العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس" جامع أخلاق الراوي 1292
قال أبو عمر بن عبد البر: " معلوم أنّ مالكاً كان من أشد الناس تركاً لشذوذ العلم، وأشدهم انتقاداً للرجال، وأقلهم تكلفاً، وأتقنهم حفظاً، فلذلك صار إماماً" التمهيد 1/65
فإذا تبين أن من يتتبع الشذوذ لا يكن إماما وفقيها وأن دينه في خطر فكيف بمن جعل تتبع الشذوذ منهاجه بدعوى اتباع السنة؟ نسأل الله العافية
باب لا تقل ما ليس لك فيه إمام وأن كل قول محدث باطل
وقال الإمام مالك: " إن حقاً على كل من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى من قبله" حلية الأولياء 6/234
قال الإمام الشافعي في الرسالة: " فقال لي قائل "قد فهمت مذهبك في أحكام الله ثم أحكام رسوله وأن من قبل عن رسول الله فعن الله قبل بان افترض طاعة رسوله وقمت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم كتابا ولا سنة أين يقول بخلاف واحد منهما وعلمت أن هذا فرض الله. فما حجتك في أن تتبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله ولم يحكوه عن النبي أتزعم ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبدا إلا على سنة ثابتة وإن لم يحكوها؟"
فقلت له "أما اجتمعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله إن شاء الله. وأما ما لم يحكوه فاحتمل أن يكون قالوا حكاية عن رسول الله واحتمل غيره ولا يجوز أن نعده له حكاية لانه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعا ولا يجوز أن يحكي شيئا يتوهم يمكن فيه غير ما قال
فكنا نقول بما قالوا به اتباعا لهم ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم وقد تعزب عن بعضهم ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله ولا على خطأ إن شاء الله" هـ الرسالة 472
وقد سئل الإمام أحمد عن تفسير الحديث: " أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ " فأجاب: "يُفْتِي بِمَا لَمْ يَسْمَعْ" الآداب الشرعية 2/134
قال الخلال: " أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيٍّ النَّسَائِيُّ بِحِمْصَ قَالَ : سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ , يَقُولُ : قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قُلْتُ : مَا أَعْلَمُ رَجُلاً أَثِقُ بِهِ . قَالَ : لم تقل شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا" السنة للخلال 965
وقال الميموني: " قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام" رواه ابن الجوزي في المناقب
قال أبو يعقوب البغوي عمن يقول "لفظي بالقرآن غير مخلوق" : " ونحن لم نسمع عالماً قال هذا ، ولا بلغنا عن عالم أنه قاله منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وإلى زماننا هذا وإنما نحن أصحاب اتباع وتقليد لأئمتنا وأسلافنا الماضين - رحمهم الله - لا نحدث بعدهم حدثاً ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله إمام"
وكذلك قال الإمام إبراهيم الحربي وابن جرير الطبري وغيرهما في مسألة الاسم والمسمى منعوا الكلام فيها بحجة أن السلف ما تكلموا بهذا ومثل هذا كثير في كلام الأئمة في مسائل شتى
قال الإمام البربهاري: " فالله الله في نفسك وعليك بالآثار وأصحاب الأثر والتقليد فإن الدين إنما هو التقليد يعني للنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ومن قبلنا لم يدعونا في لبس فقلدهم واسترح ولا تجاوز الأثر وأهل الأثر!" شرح السنة 120
قال الإمام الآجري: " فإذا أوردت عليه مسألة قد اختلف فيها أهل العلم اجتهد فيها ، فما كان أشبه بالكتاب والسنة والإجماع ، ولم يخرج به من قول الصحابة وقول الفقهاء بعدهم قال به ، إذا كان موافقا لقول بعض الصحابة وقول بعض أئمة المسلمين قال به . وإن كان رآه مما يخالف به قول الصحابة وقول فقهاء المسلمين حتى يخرج عن قولهم لم يقل به ، واتهم رأيه ، ووجب عليه أن يسأل من هو أعلم منه أو مثله ، حتى ينكشف له الحق ، ويسأل مولاه أن يوفقه لإصابة الخير والحق" أخلاق العلماء 1/43
قال الفقيه المشهور ابن أبي زيد القيرواني: " ليس لأحدٍ أَنْ يُحْدِثَ قولاً أو تَأْويلاً لم يَسْبِقْهُ به سَلَفٌ , وإنه إذا ثَبَت عن صاحبٍ قَوْلٌ لا يُحْفَظُ عن غيرِه من الصحابةِ خِلاَفٌ له ولا وِفَاقٌ , أنَّه لا يسَع خِلافُه. وقال ذلك معَنا الشافعيُّ , وأهلُ العراقِ" النوادر والزيادات 1/5
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كلُّ قَوْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَطَأً، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ" الفتاوى الكبرى 1/369
قال الحافظ ابن عبد الهادي تلميذ ابن تيمية: " لا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة ، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر ، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه" الصارم المنكي 1/318
قال الحافظ ابن رجب: " وقد اعتمد ابن حزم على هَذا الحديث في ان الحائض والنفاس مدتهما واحدة ، وأن أكثر النفاس كأكثر الحيض ، وَهوَ قول لَم يسبق إليه ، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي علي أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه" فتح الباري 1/407
وقال:"فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به قال عمر بن عبد العزيز خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم..
وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد: وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله"هـ فضل علم السلف على علم الخلف 4-6
فإذا تبين هذا فكل من يحدث أقوالا جديدة لم يسبق إليها ويتخذ ذلك عادة له فهو مبتدع مبطل ضال وليس بعالم وليس بفقيه مهما فخمه أتباعه "فإن العُلماء لا تُعظم أقدارهم ويُعتد بأقوالهم بمجرد التفخيم لهم والتنويه بذكرهم وإنما يعتبرون باتباع الحق وإجتناب الباطل" كما قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله
باب التغليظ في مخالفة الإجماع
قال العلامة أبو المظفر السمعاني: "إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الارتكابات فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها" قواطع الأدلة 1/469
فكيف بمن يدعي العلم والإمامة وإحياء السنن فخالف عشرات إجماعات الأسلاف الماضين؟ نسأل الله السلامة والعافية
باب في ذم الظاهرية وبيان ابتداعهم وعدم الاعتبار بهم عند سلف الأمة وأئمتها
اعلم رحمك الله أن جماهير الأسلاف بدعوا الظاهرية ولم يعتبروهم شيئا لا هم أنفسهم ولا خلافهم وحكموا عليهم ببدعة وضلالة لمخالفتهم طريقة أهل السنة والأثر في الفقه وابتداعهم إنكار القياس واستحداثهم أقوالا منكرة وأصولا باطلة ومخالفتهم الإجماعات في مسائل كثيرة
قال أبو حاتم الرازي في بيان مذهب أهل السنة في أصول الدين: "مَذْهَبُنَا وَاخْتِيَارُنَا ..وَتَرْكُ رَأْيِ الْمُلْبِسِينَ الْمُمَوِّهِينَ الْمُزَخْرِفِينَ الْمُمَخْرِقِينَ الْكَذَّابِينَ , وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي كُتِبِ الْكَرَابِيسِ , وَمُجَانَبَةُ مَنْ يُنَاضِلُ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَشَاجَرَ فِيهِ مِثْلِ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيِّ وَأَشْكَالِهِ وَمُتَّبِعِيهِ" شرح أصول الاعتقاد 323
وقال: " داود ضال مضل لا يلتفت إلى وساوسه وخطراته"هـ الثقات ممن لم يسم في الكتب الستة 4/186
قال ابنه الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في ترجمة داود بن علي الظاهري مؤسس تلك المذهب الذميم: " روى عن إسحاق الحنظلي وجماعة من المحدثين وتفقه للشافعي رحمه الله تعالى ثم ترك ذلك ونفى القياس وألف في الفقه على ذلك كتبا شذ فيه عن السلف وابتدع طريقة هجره أكثر أهل العلم عليها وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده الا أن رأيه أضعف الآراء وأبعدها من طريق الفقه وأكثرها شذوذا" لسان الميزان 2/423
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله في داود: " كان ضالا مبتدعا مموها ممخرقا قد رأيته وسمعت كلامه وحكيته لأبي وأبى زرعة فلم يرضيا مقالته أما أبى رحمه الله فحمل إليه كتاب له يسميه كتاب البيوع وقصد أهل الحديث وذمهم وعابهم بكثرة طلبهم للحديث ورحلتهم في ذلك فأخرج أبى كتابا في الرد عليه في نحو خمسين ورقة" الجرح والتعديل 3/411
ولما أحدث هذه الطريقة الذميمة وابتدع إنكار القياس قام عليه الإمام السني الشهير إسماعيل بن إسحاق القاضي ونفاه من بغداد عقوبة عليه لبدعه وضلاله
قال العياض المالكي: " وكان اسماعيل شديداً على أهل البدع يرى استتابتهم حتى ذكر أنهم تحاموا بغداد في أيامه. وأخرج داود بن علي من بغداد الى البصرة، لإحداثه منع القياس "
وقد نقل هذه الحادثة ابن العربي المالكي كذلك إذ قال في أحكام القرآن (3/114) بعد أن نقل عن داود طعنه الخبيث في إسماعيل بن إسحاق: " وَفِي حِكَايَةِ دَاوُد هَذَا عَنْ إسْمَاعِيلَ عُهْدَةٌ وَهُوَ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَا ثِقَةٍ فِيمَا يَحْكِيهِ وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى إسْمَاعِيلَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ كَانَ نَفَاهُ مِنْ بَغْدَادَ وَقَذْفَهُ بِالْعَظَائِمِ"
وقد نقل العلامة الآبري الشافعي عن الإمام ابن سريج من متقدمي أصحاب الشافعي أنه سئل عن رجل أوصى للفقهاء بمال هل يعطى من يتفقه على مذهب داود؟ فقال: لا. قيل: ولم؟ قال: لأنهم ليسوا فقهاء, إنما الفقيه من يستنبط ويفرع ويقيس على الأصول, وهم لا يرون ذلك" هـ مناقب الشافعي 50
والإنكار على الظاهرية مشهور عن ابن سريج وقد نقله عنه كثير من أهل العلم
وقال الآبري نفسه: " كان داود بن علي الأصبهاني من كبار أصحاب الشافعي، ثم إنه خالف وانتحل مذهباً لنفسه خالف فيه الأمة والإجماع، نعوذ بالله من الحور بعد الكور " مناقب الشافعي 61
ومن صفاتهم الذميمة ردهم إجماع المتقدمين ومخالفة سبيل المؤمنين
قال الحافظ ابن رجب في بيان بعض المسائل: " فإن شذ أحد من أهل الظاهر جرياً على عادتهم ، ولم يبال بخرق إجماع المسلمين.. " فتح الباري 3/68
وقد صدق رحمه الله فإنه عادة لهم خبيثة في حب الشذوذ وعدم المبالاة بالإجماع نسأل الله العافية وقد تبع هؤلاء المعاصرون قدمائهم في ذلك وخرقوا الإجماعات وأحدثوا أقوالا جديدة شاذة ولا حول ولا قوة إلا بالله
أما الاعتبار بمخالفتهم أهل السنة فلا يعتبر قولهم وخلافهم عند المحققين
وقد سبق أقوال السلف فيهم وأزيد أقوال بعض المتأخرين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة، فهو خطأ" منهاج السنة 5/120
قال الذهبي: " لا ريب أن كل مسألة انفرد بها، وقطع ببطلان قوله فيها، فإنها هدر، وإنما نحكيها للتعجب" السير 13/107
وحتى النووي نقله عن الأكثرين والمحققين إذ قال في شرحه على صحيح مسلم: " لَمْ تَضُرّ مُخَالَفَته فِي اِنْعِقَاد الْإِجْمَاع عَلَى الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ " شرح صحيح مسلم 1/407
وفي الختام نسأل الله أن يبصرنا وجميع إخواننا بصحيح الدين وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه
وصلى الله على محمد وعلى آل وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق