بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
ابن القيم: لا يكون لله ولي من غير أهل الإثبات
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
الوجه المائة: أن الأعمال الصَّالحة والفاسدة نتائج الاعتقادات الصحيحة والباطلة، فانظر رؤوس المثبتة والنُّفاة وملوكهم وأتباعهم يُبَيَّنْ لك حقيقة الأمر، فرؤوس المثبتة آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم الخليل، وسائر الأنبياء من ذريته، وموسى الكليم وعيسى، وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيِّد ولد آدم محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، فجاء بالإثبات المفصَّل الذي لم يأت رسولٌ بمثله،
فصرَّح من إثبات الصِّفات والأفعال بما لم يصرِّح به نبيٌّ قبله، وذلك لكمال عقول أمته وكمال تصديقهم، وصحة أذهانهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم حامل لواء الإثبات، وتحت ذلك اللواء آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم، ثم المهاجرون والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وسائر الصَّحابة، ثم التَّابعون لهم بإحسانٍ ممَّن لا يحصيهم إلَّا الله، ثم أتباع التَّابعين، ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار، منهم الأئمة الأربعة، ثم أهل الحديث قاطبةً وأئمة التفسير والتصوف والزهد والعبادة المقبولون عند الأُمة ممَّن لا يحصي عددهم إلَّا الله.
فهل سُمع في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المشهود لهم بالجنة وسائر المهاجرين والأنصار؟ وهل سُمع بقومٍ أتم عقولًا، وأصح أذهانًا، وأكمل علمًا ومعرفة، وأزكى قلوبًا من هؤلاء الذين قال الله فيهم: {قُلِ اِلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ اِلَّذِينَ اَصْطَفَى} [النمل: 61] قال غير واحدٍ
من السلف: هم أصحاب محمدٍ.
قال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمَن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمدٍ، أبرُّ هذه الأُمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
فهؤلاء أُمراء هذا الشأن، وأمَّا الجند والعساكر فالتَّابعون كلهم، ثم الذين يلونهم، مثل: مالك بن أنسٍ، وسفيان بن عُيينة، وسفيان الثَّوْري، وحماد بن زيدٍ، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعدٍ، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، والشَّافعي، وعلي بن المديني، ويحيى بن مَعِين، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وأبي حاتم وأبي زُرعة الرَّازيَّان، وأمثالهم.
وأمَّا عامتهم فأهل الدِّين والصدق والورع والزُّهد والعبادة والإخلاص واجتناب المحارم وتوقِّي المآثم.
وأمَّا رؤوس النُّفاة والمعطلين ففرعون إذ يقول: {يَاهَامَانُ اُبْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ اُلْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]
وجنوده كلهم، ونمرود بن كنعان ـ هذا خصم إبراهيم الخليل، وذاك خصم موسى الكليم ـ وأرسطاطاليس وبقراطيس وأضرابهما، وطمطم وتنكلوشا وابن وحشية وأضرابهم، وابن سينا والفارابي، وكل فيلسوفٍ لا يُؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه
وأمَّا عوامُّهم فاعتبر عوام النُّصَيرية والإسماعيلية والدُّرزية والحاكمية والطُّرقية والعرباء، وعبادهم: البخشية والطونية. وعلماؤهم السحرة. وعساكرهم: المشركون، والقرامطة الذين هم أعظم الأمم إفسادًا للدُّنيا والدِّين.
فليعتبر العاقل خواص هؤلاء وهؤلاء، وعوام هؤلاء وهؤلاء، وليقابل بين الطَّائفتين، وحينئذٍ يتبين له أنه ما كان ولا يكون ولي لله إلَّا من أهل الإثبات، وما كان ولا يكون ولي للشيطان إلَّا من أهل النفي والتعطيل: إمَّا تعطيل الصَّانع عن صفات كماله ونعوت جلاله، وإمَّا تعطيل القلب عن توحيده وعبوديته وإخلاص الدِّين له.
واعتبر ذلك بإمام النُّفاة في زمانه وما جرى على أهل السُّنَّة منه: ابن أبي دؤاد وأصحابه الذين سَعَوْا في ضرب الإمام أحمد، وقتل كثيرٍ من أهل السُّنَّة، وحبسهم وتشتيتهم في البلاد، وقطع أرزاقهم؛ ثم إمامهم في زمانه نصير الكفر والشرك الطوسي، وما جرى على المسلمين منه من قتل خليفتهم وعلمائهم وعُبَّادهم.
وإذا اعتبرت أحوال القوم رأيت عوامَّ اليهود والنصارى أقلَّ فسادًا في الدِّين والدُّنيا من أئمة هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم،
وغاية الواحد من هؤلاء إذا أراد الجاه أن يتقرب إلى الملوك الجهلة الظلَمة بما يناسبهم من السحر، فيُصنِّف لهم فيه، ويتقرب به إليهم.
فهؤلاء علماؤهم وملوكهم وعوامهم، فكيف يكون هؤلاء أحظى بالعقل وأسعد به من الرُّسل وأتباعهم، وسيرةُ هؤلاء وهؤلاء معلومةٌ في العالم، وأعمالُهم وعلومهم ومعارفهم وآثارهم دالةٌ لمن له أدنى عقلٍ على حقيقة الحال، والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق