تخريج أثر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في العذر بالجهل والرد على ضلال المتعالمين الذين يتلاعبون بكتب التراث

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد


فقد ظهر في هذه الآونة الأخيرة نشء جديد لم يتعلموا جيدا لا العقيدة ولا غيرها إنما قرؤوا شيئا في بعض العلوم كعلم المصطلح وقرؤوا بعض المخطوطات فظنوا أنفسهم محدثين محققين واعتبروا أنفسهم أهلا لتحقيق كتب التراث والتعليق عليها والتصرف فيها بجهلهم وقلة علمهم الحديثي والعقدي

ولهم في ذلك بعض الرؤساء الضالون (كمن يسمى إمام الحديث في هذا العصر!!) علق على بعض كتب العقيدة السلفية وضعف ماشاء وصحح ما شاء وعلق عليه بتعليقاته الجائرة الجاهلة وخرج على إجماعات السلف وضعف أثر المجاهد في المقام المحمود الذي تلقاه سلف الأمة بالقبول وتخبط في معاني الاستواء وما إلى ذلك من هذه الجهلات الشنعاء والضلالات الظلماء

وسلك هؤلاء المتعالمون سبيله واقتفوا آثاره وأقبلوا على كتب سلف الأمة وأئمتها بجهلاتهم وضلالاتهم زاعمين أنهم ينقحونها ويصفونها من المنكرات!! ويزعمونها (تصفية وتربية)!!

ومن مسلكهم في هذا أنهم يريدون إظهار أنفسهم مظهر المحققين في علم العلل فيا سبحان الله يقبلون على آثار الصحابة والتابعين وأقوال الأئمة من دونهم ويبحثون في سندها أشد البحث حتى يضعفوها ويظهروا أنها معلولة وضعيفة وأنهم كشفوا عن هذه العلل ما لم يكشف أصحاب هذه الكتب من كبار الأئمة

يقولون مثلا فلان رواه عن فلان ورواية فلان عن فلان قد تكون قبل اختلاطه وبعده ولا نعلم وهذا يوجب التوقف في قبول هذا الأثر وطرحه إلخ هذه الهذايان الشنعاء

ومن المعروف عند ذوي العقول السليمة والألباب المستقيمة أن آثار الموقوفة والمقطوعة فضلا عما دونها من أقوال الأئمة لا تعامل معاملة الأحاديث النبوية إلا في بعض الأحوال الخاصة مثل أن يكون هناك نكارة أو ركاكة أو مخالفة أصول الدين في المتن إلخ

ومن سوى بين هذا وذاك فقد خالف السلف وضل في هذا الباب

وكان السلف يروون في مصنفاتهم في العقيدة الأصول ثم يقوون هذه الأصول بما ورد في هذا الباب من الأحاديث محتملة الضعف والآثار الموقوفة والمقطوعة وأقوال الأئمة إلخ ويتساهلون في ذلك

فجاء الخلوف الضالون على كتبهم بالهدم بهذه الطريقة وسلحوا أهل البدع تسليحا فما من مبتدع الآن إلا وهو يستغل تعليقاتهم وتضعيفاتهم للطعن في كتب السلف وطريقتهم وما حسن المالكي عنا ببعيد

ومن الآثار التي ضعفوها جرما وعدوانا وظلما وجهلا أثر مشهور عن عمر بن الخطاب ضي الله عنه في مسألة العذر بالجهل

نقول أولا قبل تخريجه – نسلم لكم أيها الجهلة أنه أثر ضعيف الإسناد فكان ماذا؟ إن معناه صحيح غاية الصحة وجاء في هذا الباب من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما لا يحصيه إلا الله عز وجل

ولا أدري ماذا استفدتم من تضعيفكم السند؟! طيب ضعفتم السند هل تضعفون الآيات والأحاديث الصحاح أيها الخونة؟

وإلا فلماذا هذه الشنشنة حول هذا الأثر؟ أتشويشا على العوام ومن لا بصيرة له بحقيقة دين الإسلام وتضليلا للجهال والطغام؟ قاتلكم الله

ثم نقول: هذا الأثر صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشهور عنه ولا يستريب في هذا من له دراية

روي عن عمر من طرق

- منها: قال سعيد بن منصور كما في الإحكام (6/215): حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهرى حدثنا موسى بن عقبة قال : (هذه خطبة عمر بن الخطاب يوم الجابية : أما بعد فإنى أوصيكم بتقوى الله الذى يبقى ويفنى ما سواه ، الذى بطاعته يكرم أولياؤه ، وبمعصيته يضل أعداؤه ، فليس لهالك هلك معذرة فى فعل ضلالة حسبها هدى ، ولا فى ترك حق حسبه ضلالة..)

وهذا الإسناد رجاله ثقات عدول إلا أن موسى بن عقبة من صغار التابعين ولم يسمع عن عمر

لكنه سمع عن أهل بيته وأصحابه ونسب هذه الخطبة إلى عمر جازما بهذه النسبة فتأمل!

وقاله عمر يوم الجابية يوم الاجتماع الكبير للصحابة ولم ينكر قوله عليه منهم أحد فصار إجماعا!

- منها ما رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة (3/800) وابن بطة في الإبانة الكبرى (162) والخطيب في الفقيه والمتفقه (253) وغيرهم كلهم بطرقهم عن الإمام الأوزاعي عن عمر بن الخطاب

و إسناد بن شبة صحيح إلى الأوزاعي وبين الأوزاعي وعمر انقطاع ظاهر لأن الأوزاعي من تابعي التابعين لم يسمع عن أحد من الصحابة

لكن نقول:

أولا كونه فيه انقطاع لا يمنعنا من أن نقوي به الطريق الأول

ثانيا قال الأوزاعي في رواية ابن شبة: " كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ.." فتأمل!! هاهنا الإمام العظيم والمحدث الكبير أثبته من قول عمر وزاد أنه كان من كلامه المشهور المتكرر كما يدل عليه قول (كان عمر يقول) ومن المعلوم من أصول الفقه واللغة أن صيغة (كان فلان يفعل أو يقول..) تدل على الاستمرار والتكرار

- منها ما رواه أبو يوسف رحمه الله في الخراج (23) قال: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِنَا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْكِلاعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ فَحَمَدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَبْقَى وَيَهْلِكُ مَنْ سِوَاهُ، الَّذِي بِطَاعَتِهِ يَنْتَفِعُ أَوْلِيَاؤُهُ، وَبِمَعْصِيَتِهِ يُضَرُّ أَعْدَاؤُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِهَالِكٍ هَلَكَ مَعْذِرَةٌ فِي تَعَمُّدِ ضَلالَةٍ حَسِبَهَا هُدًى، وَلا فِي تَرْكِ حَقٍّ حَسِبَهُ ضَلالَةً

وهذا الإسناد فيه رجل مبهم وأيضا عثمان بن عطاء وأبوه لم أهتد إلى أقوال الأئمة فيهم من ناحية الجرح والتعديل

إلا أن ابن عساكر قال في تاريخ دمشق (5/300) : " عطاء الكلاعي شهد خطبة عمر بالجابية.." والله أعلم

- منها ما رواه ابن الجوزي سيرة عمر ص88-89، وأبو نعيم في الحلية 5/346-353 واللفظ لأبي نعيم قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة ثنا محمد بن إسحاق السراج ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام ثنا محمد بن بكر البرساني ثنا سليم بن نفيع القرشي عن خلف أبي الفضل القرشي عن كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى النفر الذين كتبوا إلى بما لم يكن لهم بحق في رد كتاب الله تعالى وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه السابق الذي لا حد له إلا إليه وليس لشيء منه مخرج وطعنهم في دين الله وسنة رسوله القائمة في أمته أما بعد فانكم كتبتم إلي بما كنتم تستترون منه قبل اليوم في رد علم الله والخروج منه إلى ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخوف على أمته من التكذيب بالقدر وقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة وسيقبض العلم قبضا سريعا وقول عمر بن الخطاب وهو يعظ الناس إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى ولا في هدى تركه حسبه ضلالة قد تبينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى.." إلخ الأثر

وقال ابن الجوزي: "وهذه رسالة مروية عن عمر بن عبد العزيز في الأول، وجدت أكثر كلماتها لم تضبطها النقلة على الصحة، فانتقيت منها كلمات صالحة.." فذكره بهذا اللفظ

وفي إسناده من أبهم ومن لا يعرف لكنه جاء عن عمر بن عبد العزيز بالإسناد الصحيح من قوله قال ابن نصر المروزي في سنته (95) قال: " حدثنا أبو حفص الباهلي ثنا شريح بن النعمان ثنا المعافى ثنا الأوزاعي قال قال عمر بن عبد العزيز لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى" وإسناده صحيح

وهذا كله يدل على أن هذا كلام عمر بن الخطاب كان معروفا عند السلف منتشرا بينهم وكانوا يصوبونه فيه ويتبعونه عليه

- وله طرق أخرى لم تصل إلينا كاملة

- منها ما ذكره الهندي في كنز العمال 29349 أن عن الاحوص بن حكيم بن عمير العنسي قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الاجناد : تفقهوا في الدين فانه لا يعذر أحد باتباع باطل وهو يرى انه حق ولا يترك حق وهو يرى أنه باطل"

ثم قال: "(رواه) آدم بن أبي اياس في العلم" وكتاب العلم لم يصل إلينا كاملا وما وصل منه فمخطوطه في الإمارات لا سبيل لي إليه

والأحوص في حفظه شيء من ضعف

- منها ما ذكره ابن الجوزي في المناقب قال:" وعن عدي بن سهيل الأنصاري قال: "قام عمر في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ويفني ما سواه، والذي بطاعته ينفع أولياءه، وبمعصيته يضرّ أعداءه، فإنه ليس لهالك هلك عذر في بعض ضلالة حسبها هدى، ولا ترك حقّ حسب ضلالة، قد ثبتت الحجة وانقطع العذر.."

وعدي بن سهيل صحابي لكن ابن الجوزي لم يذكر الإسناد فدل على أن للقصة طريقا آخر لم يصل إلينا أيضا

والخلاصة أن لهذه القصة طرقا كثيرة منها ما ضعفه خفيف فيقوى بعضها بعضا ومثل هذا يحتمل عند العلماء المحققين في الآثار الموقوفة خاصة أن هذا الكلام كان مشهورا عن عمر بن الخطاب عند السلف من قوله ونسبوه إليه واحتجوا به حتى أنهم أوردوه في مصنفاتهم في العقيدة كما فعل قوام السنة وابن بطة والبربهاري وقال (ص 88) (وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه و سلم وعن التابعين وعن القرن الثالث إلى القرن الرابع فاتق الله يا عبد الله وعليك بالتصديق والتسليم والتفويض والرضى بما في هذا الكتاب ولا تكتم هذا الكتاب احدا من أهل القبلة فعسى الله أن يرد به حيرانا من حيرته أو صاحب بدعة من بدعته أو ضالا عن ضلالته فينجو به فاتق الله وعليك بالأمر الأول العتيق وهو ما وصفت لك في هذا الكتاب فرحم الله عبدا ورحم والديه قرأ هذا الكتاب وبثه وعمل به ودعا إليه واحتج به فإنه دين الله ودين رسوله وأنه من استحل شيئا خلافا لما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين وقد رده كله كما لو أن عبدا آمن بجميع ما قال الله عز و جل إلا أنه شك في حرف فقد جميع ما قال الله وهو كافر)

ولا يقال إن في كتاب البربهاري كيت وكيت هل من خالف هذا كفر إلخ لأن الإمام إنما عنى أصول المعتقد لا غير وهذه المسألة منها ولله الحمد

فاتق الله يا عبد الله ولا تنحرف عن دينك وعقيدتك ولا تتبع سبل الخلوف من أهل التجهم والإرجاء والتعالم والمرية

فاتبع سلفك الصالح واسلك طريقهم تنج وتفلح

وصلى الله على نبينا محمد وعلى لآله وصحبه وسلم

هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2014 © مدونة أبي موسى الروسي