بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة عن حديث لطم موسى ملك الموت
قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث ودفعوه، وقالوا: لا يخلو أن يكون موسى عرف ملك الموت، أو لم يعرفه، فإن كان عرفه فقد ظلمه واستخف برسول الله، ومن استخف برسول الله فهو مستخف بالله، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتى موسى عيانًا لا معنى لها. قال الجهمى: وزعمت الحشوية أن الله لم يقاصص الملك من اللطمة وفقء العين، والله تعالى لا يظلم أحدًا.
قال ابن خزيمة: وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته، ولم يبصره رشده، ومعنى الحديث صحيح على غير ما ظنهُ الجهمى، وذلك أن موسى (صلى الله عليه وسلم) لم يبعث الله إليه ملك الموت، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا وابتلاء، كما أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه، ولم يُرد تعالى إمضاء الفعل ولا قتل ابنه، ففداه بذبح عظيم) وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) [الصافات: 104، 105] ولو أراد قبض روح موسى حين ألهم ملك الموت لكان ما أراد، لقوله تعالى: (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل: 40]
وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذا رأى شخصًا فى صورة آدمى قد دخل عنده لا يعلم أنه ملك الموت،
وقد أباح الرسول فقء عين الناظر فى دار المسلم بغير إذن، رواه بشير ابن نهيك، عن أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من اطلع فى دار قوم بغير إذن، ففقأ عينه فلا دية ولا قصاص) . ومحال أن يعلم موسى أنه ملك الموت ويفقأ عينه، وكذلك لا ينظره إلا بعلمه. وقد جاءت الملائكةُ خليل الله إبراهيم ولم يعرفهم فى الابتداء حتى أعلموه أنهم رسل ربهم، قال تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلام (إلى) خيفة) [هود: 69، 70]
ولو علم إبراهيم فى الابتداء أنهم ملائكة الله لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلاً، لأن الملائكة لا تطعم، فلما وجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط، وقد أخبر الله أن رسله جاءت لوطًا فسيئ بهم وضاق بهم ذرعًا، ومحال أن يعلم فى الابتداء أنهم رسل الله ويضيق بهم ذرعًا، أو يسيئ بهم. وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه، واستعاذت منه، ولو علمت مريم فى الابتداء أنه ملك جاء يبشرها بغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويكون نبيًا ما استعاذت منه.
وقد دخل الملكان على داود فى شبه آدميين يختصمان عنده ولم يعرفهما وإنما بعثهما الله ليتعظ بدعوى أحدهما على صاحبه، ويعلم أن الذى فعله لم يكن صوابًا فتاب إلى الله وندم، قال تعالى: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا) [ص: 24] ، فكيف يُستنكر ألا يعرف موسى ملك الموت حين دخل عليه. وقد جاء جبريلُ النبى (صلى الله عليه وسلم) وسأله عن الإيمان والإسلام فى صورة لم يعرفه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أحد من أصحابه، فلما ولَّى أخبر النبى أنه جبريل، وقال: (ما أتانى فى صورة قط إلا عرفته، غير هذه المرة) .
وكان يأتيه فى بعض الأوقات مرة فى صورة، ومرة فى صورة أخرى، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه لم ير جبريل فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين.
وأما قول الجهمى: إن الله لم يقاصص ملك الموت من اللطمة، فهو دليل على جهل قائله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص. ومن أخبره أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه. وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسًا ولم يقاصص الله منه لقتله.
وقيل: إذا كانت اللطمة غير مباحة يكون حكمها على كل الأحوال حكم العمد، فيه القصاص، أو تكون فى بعض الأحوال خطأ تجب فيه الدية على العاقلة، وما الدليل أن فقء عين ملك الموت كان عمدًا فيه القصاص دون أن يكون خطأ، وهل تركُ القصاص من موسى لملك الموت لو كان فقأ عين الملك عمدًا، وكان حكم الملائكة مع بنى آدم القصاص كحم الآدميين، إلا كترك القصاص من موسى لقتيله، وكترك القصاص من أحد بنى آدم لأخيه. وقد يأمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأمر على وجه الاختبار والابتلاء، لا على وجه الإمضاء لأمره، كما أمر (صلى الله عليه وسلم) بإقامة الحد على الرجل الذى زعمت المرأة أنه وطئها من غير إقرار الرجل، ولا إقامة بينة عليه، فبان للنبى فى المتعفف من الوطء، وصح عنده أن الذى رمته به المرأة كان زنا، وهذا كأمر سليمان بن داود بقطع الصبى باثنين، وإنما أراد أن يختبر من أمُّ الصبى، لأن الأم أحنى على ولدها وأشفق، فلما رضيت إحداهما بقطع الصبى، ورضيت الأخرى بدفعه إلى الثانية، بان عنده وظهر أن أم الصبى اختارت حياة ابنها، وكذلك بعث الله ملك الموت إلى موسى للابتلاء والاختبار. وقد أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى لم يقبض نبيًا قط حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره، فلا يجوز أن يؤمر ملك الموت بقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة، وقبل أن يخيره، والله ولى التوفيق. ومعنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة، والله أعلم، لفضل من دُفن فى الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم فى الممات، كما يستحب جبرتهم فى المحيا، ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق